منذ انطلاق ثورة الفيزياء الكمومية عام 1900 على يد ماكس بلانك، ومن ثم إعلان آينشتاين عن اكتشافاته عام 1905، فُتح بابٌ جديد وأفق هائل في الفيزياء; أفق لم يتخيله أحد.
أدت الاكتشافات الهامة في الفيزياء ببداية القرن العشرين إلى نشوء مبادئ جديدة مثل الميكانيك الكمومي (وما يتضمنه من المعادلات الموجية ومبدأ الارتياب) ومن ثم النظريات اللاحقة مثل الالكتروديناميك الكمومي Quantum Electrodynamics والكروموديناميك الكمومي Quantum Chromodynamic. تمثل الهدف الأهم في الوصول إلى إطارٍ فيزيائي يمكن عبره تفسير كافة القوى والجسيمات وتفاعلها مع بعضها البعض، وهو ما عجزت عنه معظم النظريات الفيزيائية، خصوصاً ما يتعلق بمسألة إيجاد رابط بين قوة الجاذبية والقوى الأساسية الأخرى: الكهرومغناطيسية، النووية الضعيفة، النووية الشديدة، فضلاً عن الإجابة على السؤال الأهم: ما هو مصدر الكتلة؟ من أين أتت الكتلة ؟ ولماذا تتمايز جسيمات المادة عن جسيمات المادة المضادة من ناحية العدد والكمية؟
بيتر هيغز فرانسوا انغلرت
في عام 1964، تم نشر ورقة بحثية تمثل حصيلة نتاج مشترك بين ثلاثة علماء: بيتر هيغز، فرانسوا انغلرت وروبرت بروت، تم عبرها افتراض وجود حقل (أصبح يعرف فيما بعد بحقل هيغز Higgs Field) والذي من المفترض أن يسيطر فيه نوع خاص من الجسيمات الأولية هو جسيمات هيغز-بوزون. تفاعل جسيمات هيغز-بوزون مع حقل هيغز، هو ما سيعطي الجسيمات كتلاً مختلفة (وذلك بحسب سرعة الجسيمات ضمن الحقل)، وبالتالي، إذا تم إثبات وجود حقل هيغز وجسيمات هيغز، فإن مسألة تفسير اكتساب الكتلة ستصبح مجرد مسألة وقت وحسابات.
خلال السبعينيات، تم اقتراح النظرية الأكثر تكاملاً وتوافقاً مع النتائج التجريبية: نظرية النموذج المعياري لفيزياء الجسيمات Standard Model of Particles Physics، حيث تضمنت هذه النظرية كافة القوى والجسيمات الأساسية وتفاعلها مع بعضها البعض. وفي حين أن كافة الجسيمات التي توقعتها نظرية النموذج المعياري تم إثبات وجودها تجريبياً (ضمن مسرعات الجسيمات عالية الطاقة)، بقي هنالك قطعة واحدة مفقودة لم يتم إثبات وجودها: جسيم هيغز-بوزون.
جسيم هيغز-بوزون، هو جسيم أولي، يمتلك كتلة معدومة، ويمتلك عزم دوران ذاتي (سبين Spin) مقداره عدد موجب وصحيح من (n): أي قد يكون 0 أو 1 أو 2 أو 3. والبوزونات أساساً هي أحد تصنيفات الجسيمات الأولية، التي تمتلك كتلةً معدومة وتقوم بنقل القوى، ولعل أشهر الأمثلة عليها هو الفوتون، الجسيم عديم الكتلة والناقل للقوة الكهرومغناطيسية. (حديثاً تشير بعض النظريات إلى احتمالية وجود أكثر من جسيم هيغز).
وفي سبيل البحث عن حقيقة وجود جسيم هيغز-بوزون، بدأ تنافس علمي دولي كبير بين أهم المراكز البحثية الفيزيائية، وتصدر الواجهة جهتين: مسرع التيفاترون Tevatron Accelerator ضمن مختبر فيرمي في الولايات المتحدة الأمريكية، ومصادم الهدرونات الكبير LHC في المركز الأوروبي للأبحاث النووية CERN.
في النهاية، فإن الإمكانيات التقنية التي تم تزويدها لمصادم الهدرونات الكبير (يبلغ طول مصادم الهدرونات الكبير 27 كم) والدعم المالي الكبير، فضلاً عن جذب خبرة علماء الفيزياء التجريبية، وقدرته على العمل بمجالات طاقة أعلى من مسرع التيفاترون، ساهم في توصل العلماء العاملين مع الكواشف الخاصة به للإعلان عن اكتشاف جسيم هيغز-بوزون في الرابع من شهر تموز/يوليو من عام 2012، وذلك لكتلة تقع ضمن المجال الطاقي بين 125 و127 غيغا الكترون فولط (في فيزياء الجسيمات، يتم الإشارة إلى كتلة الجسيمات تبعاً لطاقتها).
ما هي أهمية جسيم هيغز-بوزون؟
حسناً، كلنا نعلم اليوم (بفضل معادلة ديراك الشهيرة) أن كل جسيم أولي له جسيم مضاد: الالكترون له مضاد هو البوزيترون، البروتون له مضاد هو مضاد-البروتون...وهكذا. تمتلك الجسيمات المضادة نفس الخواص الفيزيائية لجسيماتها تماماً، باستثناء وحيد: تخالفها بإشارة الشحنة. فالبوزيترون - مضاد الالكترون - يمتلك شحنة موجبة، ومضاد البروتون يمتلك شحنة سالبة وهكذا. الأمر الأكثر إثارة يتعلق بتفاعل الجسيمات مع الجسيمات المضادة، حيث عند تلاقي جسيم مع جسيم مضاد، فإن ذلك سيؤدي إلى فنائهما سويةً وإطلاق كمية من الطاقة. من هنا نستنتج أن كمية جسيمات المادة في الكون، أكبر بكثير من كمية الجسيمات المضادة لها، وإلا لما تشكل الكون الذي نعرفه اليوم، بسبب حوادث الفناء المستمر بين المادة والمادة المضادة. وبالفعل، فقد أظهرت النتائج التجريبية أن نتيجة العديد من حوادث التفكك والتفاعلات بين الجسيمات تنتج كمياتٍ غير متساوية من المادة والمادة المضادة، وتكون دوماً كمية المادة أكبر. السؤال هو لماذا يحصل ذلك؟ لماذا يتم الحصول دوماً على كمياتٍ من المادة أكبر من كميات المادة المضادة؟ الإجابة على هذا السؤال يأمل العلماء أن تكون مرتبطة بجسيم هيغز وبحقل هيغز وبالآلية التي تتشكل فيها جسيمات المادة الأساسية وجسيمات المادة المضادة. معرفة كيفية تشكل الجسيمات الأساسية ستساهم بشكلٍ أكيد بمعرفة سبب التباين بعدد وكمية المادة والمادة المضادة، وحصول هذه الحالة من "انكسار التناظر Broken Symmetry".
هل هذه فقط هي أهمية جسيم هيغز؟ طبعاً لا، في الواقع، لم نذكر بعد الأهمية الأساسية له.
فكما ذكرنا سابقاً، يبقى أحد أهم الأسئلة الجوهرية في الفيزياء هو مصدر الكتلة، وطبقاً لنظرية النموذج المعياري، تكتسب الجسيمات الأساسية كتلتها وخواصها جراء تفاعل جسيمات هيغز-بوزون مع حقل هيغز، وبحسب طريقة تفاعل كل جسيم، سنحصل بالنتيجة على جسيم فيزيائي أولي ذو خواص مختلفة: كتلة، شحنة، عزم دوران ذاتي "سبين"...الخ. البحث المستمر والمتواصل في آلية التفاعل بين جسيمات هيغز وحقل هيغز، سيقود لمعرفة الجواب الأكيد حول مصدر الكتلة.
ما هو سبب عدم وجود أي رابط مباشر بين الجاذبية والقوى الأساسية الأخرى؟ ألا يمكن أن يقدم لنا جسيم هيغز جواباً شافياً متعلقاً بهذا الموضوع؟
طبعاً يستطيع، فالجاذبية قوة متعلقة بشكلٍ مباشر بكتل الجسيمات والمواد، ومعرفة كيفية نشوء الجسيمات واكتسابها لكتلتها وخواصها، سيؤدي لمعرفة كيفية تفاعل هذه الجسيمات مع بعضها البعض عبر القوى الأساسية، وبالتالي، من الممكن أن يتم الوصول لجوابٍ حول سبب عدم الارتباط بين الجاذبية والقوى الأخرى.
هنالك العديد من النظريات الأخرى التي تقف على المحك بانتظار التجارب المجراة على جسيم هيغز، مثل نظرية التناظر الفائق SuperSymmetry، أو نظرية الأوتار الفائقة SuperString Theory، فكلا النظريتين تتصفان بجمال التوصيف الرياضي الخاص بها، وقدرتهما على تقديم العديد من الأجوبة للعديد من المسائل والقضايا الفيزيائية المتعلقة بأصل الكون ونشأته وكيفية نشوء الجسيمات وتمايزها وتفاعل القوى مع المادة. إلى اليوم، فإن أياً من النظريتين لم يحصل على أي دليل تجريبي ملموس يؤكد صحتهما، وقد يكون جسيم هيغز هو الضربة القاضية لإثبات إما خطأ النظريتين معاً أو صحتهما معاً، أو ربما صحة أحدهما وخطأ الأخرى.
كخلاصة، ينبغي أن نقول أن اكتشاف جسيم هيغز-بوزون لم يكن نهاية مرحلة من الفيزياء، على العكس تماماً، اكتشاف جسيم هيغز-بوزون كان بداية مرحلة جديدة، وكان المفتاح الذي فتح أبواباً جديدة وأسئلة تكاد لا تنتهي، وربما ستكون رحلة الوصول لـ "نظرية كل شيء" قد بدأت للتو.
منقول من صفحة
الفيزيائيون The Physicists
إعداد وتصميم: Mario Rahal
مراجعة: Humam Betar
المصادر:
http://home.web.cern.ch/topics/higgs-boson
https://www.fnal.gov/pub/science/inquiring/questions/higgs_boson.html
https://en.wikipedia.org/wiki/Higgs_boson
http://science.howstuffworks.com/higgs-boson.htm
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق